كتبت الزميلة العزيزة الدكتورة سلوى زكو (بوستا) عن الطباعة والمطابع في العراق تساءلت فيه عن مطابع دار الحرية وماجرى لها ، ولانني كنت على تماس مع قطاع الطباعة والمطابع فلا بد من عودة الى السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات اذكر وللتاريخ أن اول من اعترض على الطباعة خارج العراق كان المرحوم يحيي ثنيان صاحب مطابع ثنيان وقد شجعه على ذلك الصديق قحطان الاورفة لي وكان مديرا للعلاقات في اتحاد الصناعات العراقي ، جاء يحيي يومها الى وزارة الصناعة والمعادن مطالبا بمقابلة الوزير طه الجزراوي رحمه الله وقد اصطحبته الى مدير المكتب الخاص يومها الصديق طلال طلعت وقال لي يحيي انه سيسلم مفاتيح المطبعة للوزير حين مقابلته احتجاجا على طباعة التربية لكتبها خارج العراق ، ولااعرف ماجرى في المقابلة ان تمت .
اعود الى الموضوع في الثمانينات عادت نغمة طباعة كتب التربية خارج العراق الى الظهور فكتب الاستاذ حاتم عبدالرشيد وكان رئيسا لاتحاد الصناعات العراقي كتابا الى ديوان الرئاسة يشرح فيها اضرارهذا التوجه على قطاع الطباعة في العراق والعاملين فيه .
اواسط الثمانينات وابان رئاسة عبدالقادر عبداللطيف رحمه الله لاتحاد الصناعات العراقي تبنى الصديق طلال طلعت وكان امينا عاما للاتحاد مذكرة قمنا باعدادها الصديق ثائر الدباغ مدير الدائرة الاقتصادية في الاتحاد وانا لفصل قطاع الطباعة عن قطاع الصناعات الجلدية واعتباره صنفا مستقلا لعلاقته الوثيقة بالثقافة ودعم عبدالقادر عبداللطيف وطلال طلعت المذكرة في مجلس الادارة وجرى تعديل قانون الاتحاد ونظامه وزرنا طلال وانا شخصيا الراحل فتح الله عزيزة واقنعناه بأن يرشح لعضوية مجلس الادارة لتمثيل الطباعة في الاتحاد ، وفي تلك المرحلة كثرت الشكاوى من طبع بعض كتب التربية في الخارج فأمرت رئاسة الجمهورية بتشكيل لجنة من وزارة التربية ودار الحرية للطباعة ومطابع حكومية اخرى بالاضافة الى اتحاد الصناعات العراقي الذي مثلته شخصيا في تلك اللجنة التي ضمت مديرا عاما في وزارة التربية اذكر ان اسمه صائب (اذا لم تخني الذاكرة) فيما مثل دار الحرية مديرها العام عبدالحسين فرحان وحضر جانبا من عمل اللجنة جعفر القيسي وهو من الكوادر الطباعية المعروفة ومثلت المؤسسة العامة للتنمية المهندسة صالحة ، و مثل وزارة الصناعة السيد سهام الاعظمي (مطابع الزيوت النباتية والدخان العراقية) ،وتم اعداد دراسة موسعة تحملت دار الحرية العبء الاكبر في اعدادها وكان مديرها العام عبدالحسين فرحان متحمسا جدا للدراسة وقامت اللجنة بجرد الطاقات الانتاجية للمطابع الحكومية ومنها مطابع (آفاق عربية) و(مطابع وعي العمال ) و(مطابع السكك) وقام احد كوادر دار الحرية للطباعة (هادي المهدي- ابو هدى) بالاتصال بمطابع دار الجماهير ودار الثورة للوقوف على طاقاتها الانتاجية الفائضة عن حاجتها وخلال الدراسة قمنا بجولات ميدانية على اغلب المطابع الحكومية للاطلاع على اوضاع معداتها ، وقمت شخصيا بالتعاون مع المهندسة صالحة بجرد الطاقات الانتاجية لمطابع القطاع الخاص وتصنيفها حسب امكانياتها بالتعاون مع عضو مجلس ادارة الاتحاد فتح الله عزيزة ، وساعدني ايضا الراحل ناظم رمزي رحمهم الله وقد خرجت الدراسة بتوصيات هامة وكنا سعداء بنتائجها وخاصة مايتعلق بمقترحاتنا لتطوير اقسام الطباعة في ثانويات الصناعة والتي يفترض فيها ان تخرج عمالا فنيين للمطابع ، وارسلت الدراسة الى ديوان الرئاسة وحصلت الموافقة عليها ومنع طبع اي كتاب خارج العراق الا بعد استنفاذ طاقات الطباعة في مطابع الدولة والقطاع الخاص وفي حالة تعذر الطباعة وبتاييد من دار الحرية للطباعة ، وكان مستوى طباعة الكتب في تلك المرحلة لايقل من حيث الجودة عن الطباعة في اي مطبعة في العالم ، وكان استيراد الورق يتم مركزيا من قبل وزارة التربية ومن قبل دار الحرية للطباعة ويتم تجهيز مطابع القطاع الخاص بالورق من قبلهما وكانت دار الحرية وهي مؤسسة وللتاريخ تضم افضل الكوادر الطباعية تقوم باحتساب كميات الورق للكتب واضافة نسبة للتلف اثناء عملية الطبع بالاضافة الى تقييم الامكانيات الفنية للمطابع لتجنب السماح لاصحاب المطابع غير المؤهلة من الدخول كوسطاء ، واستمر الامر لسنوات الى ان فرضت ظروف الحرب العراقية – الايرانية واقعا جديدا ثم جاء الحصار بعد اجتياح الكويت وضاعت (الطاسة) كما يقولون . اما مايتعلق بطباعة الكتاب الثقافي واخراجه فأنا ومن خلال متابعاتي للمطابع اعرف ان الراحل فتح الله عزيزة طبع العشرات من الكتب الثقافية واغلبها على نفقته الخاصة وابرز من اخرج الكتب الصادرة من مطبعة الاديب الزملاء رياض عبدالكريم وليث متي وقيس بهنام وهيثم فتح الله وهي كتب متميزة بطباعتها واخراجها اذكر منها دواوين شعر للشعراء سعدي يوسف ومحمد سعيد الصكار وعبدالرزاق عبدالواحد وآخرين ،وايضا كتب (الموسوعة الصحفية ) و(صحافة تموز) لفائق بطي رحمه الله ، كذلك فأن الكتب التي كانت تطبع في مطبعة رمزي واغلبها كان يقوم باخراجها هو وكادر المطبعة واذكر منهم الفنانين صالح الجميعي ومكي حسين وهناك كتبا صدرت من مطبعة رمزي صممها الفنان الراحل فهمي القيسي ايضا ، كانت كتب مطبعة رمزي متميزة باخراجها وطباعتها وايضا وحسب ماكنت اعرفه من ناظم رمزي رحمه الله انها كانت تطبع على نفقته ، كانت المطابع العراقية تتبارى في تقديم المطبوعات المتميزة .
ان مايجري اليوم تحت حجة ارتفاع تكاليف الطباعة في العراق هو نوع من التخريب والاضرار بطاقات انتاجية وطنية والتفريط بكفاءآت عمالية فنية عراقية ماهرة ، والقاصي والداني يعرف ان سبب ارتفاع تكاليف العمل في المطابع الاساسي هو (الكهرباء) وايضا هامش الربح المرتفع الذي يوضع على اسعار الورق .
ان الصناعة اي صناعة ومنها الطباعة في بلد كالعراق بحاجة الى دعم الدولة بمنحها نوع من الحمائية ، اما الخرافات التي روجها بريمر وعبيده من بعده حول اقتصاد السوق وهي سياسات تدميرية تسببت في بطالة الالاف من العمال المهرة في العراق فهي تسقط امام وقائع نعيشها اليوم فهاهو الرئيس الامريكي دونالد ترامب رئيس اكبر دولة راسمالية في العالم يلجأ الى منح الحمائية لبعض منتجاته حتى بوجه دول اتفاقية (النفثا) التي تضم بلده مع كندا والمكسيك وهو نوع من الدعم للمنتجات المحلية فهل المسؤولين في العراق اكثر فهما لاقتصاد السوق من الولايات المتحدة .
ان طباعة كتب وزارة التربية في العراق تتم بالعملة المحلية وبالتالي فانها تحرك السوق المحلية وتساعد على استمرار العمل في المطابع التي باتت شبه معطلة اليوم واضطر بعضها الى تسريح عماله المهرة الذين قضوا جل اعمارهم في هذا القطاع المهم .
ان معالجة اوضاع المطابع والطباعة في العراق لايحتاج الى (عبقرية) وانما يحتاج الى (نظافة يد) والى عودة استيراد الورق من قبل وزارة التربية من مناشيء انتاجه العالمية وتزويد المطابع به حسب احتياجاتها لطباعة الكتب .
اذا مادارت المكائن من جديد في المطابع العراقية انا واثق من ان الكتاب الثقافي سيعود للانتعاش اذا ماتوفرت الظروف له وهناك مخرجون متميزون مازالوا يعملون في العراق اسمح لنفسي ان اذكر منهم الدكتور فلاح حسن الخطاط وشقيقه الدكتور جمال ورياض عبدالكريم والعشرات من الجيل الجديد في مؤسسة (المدى) و(الصباح) وغيرها من المؤسسات والذين لم اتشرف بمعرفتهم للاسف الشديد .
لنضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعيدا عن الدين والمذهب والقومية ولنضمن (نظافة اليد) المكلفين بالمسؤوليات العليا وستعود مطابع العراق مزدهرة كما كانت في السبعينات .