1- مدخل
وداد معروف كاتبة من مصر، لديها نظرة واضحة للحياة تملك المنطق والثراء، تقدم شهادة قاسية ضد العنف الذي يمارس ضد الضعفاء والمهمشين في المجتمع، وتكشف قصتها (زيت الورد و أشياء أخرى) عن خلل داخل مجتمع, وتحدد نوعه, و لا تترك بأسلوبها هامشا كبيرا لتفسيرات متناقضة, ولا أحب أن انخدع بمقولات متعددة تعنى أن كتابه المرأة عن المرأة تعنى الأنثى, لأن الكاتبة هنا تنطلق من الموقف الإنساني, وليس غيره, حتى مع إيراد الملامح الأنثوية بالقصة, فهذا الموضوع يمكن تطبيقه على الطبقات الضعيفة المهمشة في المجتمع وليس المرأة فقط وعندما تنتهى القصة " وسيظل فمي مغلقا للنهاية ولن أقول شيئا" فهو سلوك أنتجه الضعف، والقهر غير الإنساني الذي يقع دائما على الطبقات المهمشة والضعيفة في المجتمعات - رجال أو نساء أو أطفال - لكنه يدل على أن خطاب القهر مرفوض من جانب الضعيف, لكن رفض غير معلن، لأن الرفض العلني سيحدث مواجهة تنتهى بقهر أخر.
2- القراءة
-------
هذه القصة , يندمج فيها الشكل والمضمون ويتلاحمان بشكل عضوي وفعال, ورغم أن الخلفية مجتمع متخلف وقاهر, لكنها لم تسقط في المباشرة أو التقريرية, واستطاعت رغم حيزها الصغير, أن تتخلخل البنية الاجتماعية والثقافية, لشخصيات مختلفة, تتقاطع عوالمهم, والأفكار فيها تطرح كفيض لوعى فتاة, يكشف عن طبيعة الشخصية ووحدتها , واضطرابها وعذابها من أثر المعاناة, ولكن هذه الأفكار نفسها تكشف عن تناقضات الواقع, وبؤسه وزيفه, وكوابيسه، وتركز الضوء على عالم بشع مستغل, ليس للفتاة فيه حق الكرامة, وإنما حق التمزق، وطريقة العرض في القصة, تفترض عدم وجود إصغاء من أحد- رغم وجود الأم- أي عدم وجود استجابة، لذا فالنص يفجر الصراع بكل السطور داخل المتن، لكنه صراع لا ينتهي بثورة، بل هو مجرد صراخ داخلي مقموع.
والسطور الأولى من القصة تدخلنا إلى عوالم والدجل والشعوذة عندما تذهب الأم بابنتها إلى أحدهم من أجل وقف الحال والمقصود الزواج:
(على مائدة في زاوية من الغرفة وضع قارورة الزيت وزجاجة الماء المثلج ومجمرة البخور, أشار إليها أن تتمدد على السرير, انقبضت من هذا الطلب, لكن إشارة أمها جعلتها تلقى بطرحتها جانبا وتستجيب, ثبتت عيناها في السقف لتهرب بهما من عينيه, بدأ يتلو عليها آيات القرآن ؛ لا تعرف لماذا خفت صوته وتطلسمت كلماته فلم تعد تفهم ما يغمغم به, قرّب المنضدة منه ومن تحت الغطاء مد يده يدلك جسدها بزيت الورد المخلوط بالزعفران ظل يدعك ظهرها بقوة, تململت من ثقل يده على ظهرها, نهرها قائلا : اثبتى ألا ترى جسدك كيف يتشرّب الزيت ! لقد عقد لك سحر لا يقوى على تحمله بشر)
لكن طقوس الدجل والخرافة التي تعمل عملها في الأم، لا تجد صدى من الأبنة فقد " انقبضت من هذا الطلب" في هذه السطور نلاحظ ظهور صراع ثقافي بين الأم المنتمية لثقافة متخلفة، والأبنة المنتمية للجيل الجديد، والرافضة للخرافات، كما نلاحظ قدرة الدجال بقوله:
( لقد عقد لك سحر لا يقوى على تحمله بشر)
فيوحى بالقدرة الخارقة التي يملكها، لكن الابنة التي تعرف أحوالها الطبيعية ترفض الخداع:
(وعندما خفت صوته بالطلاسم دعت ربها أن يبرئها من فعل هذا الرجل و قوله؛ فقد انهزمت أمام إلحاح أمي فسلمت وأنا كارهة، وددت أنى قذفت بهذا الرجل وزجاجاته من النافذة)
وتظهر حيل الدجالون المتجددة والمتطورة بتطور العصر في المقطع التالي:
(حتى وإن تواريتم خلف المناصب المرموقة وخلعتم السبح والمرقعات واتخذتم البدل ورابطات العنق واستبدلتم بلقب الشيخ لقب الدكتور لن يغير هذا من حقيقة دجلكم شيئا)
ثم يظهر الصراع الثقافي بين الأم والأبنة في السطور التالية:
(وجلست سلمى قبالتها تهدئها وبصوت باك قالت: دعيني أحيا كما أريد, هل سيختل الكون لو ظللت فيه فتاة دون زواج؟
لن يختل وإنما أنا عقلي هو الذى سيختل . كيف أتركك دون زواج دون رجل يحميك ويدفع عنك الطامعين ويقوم على شؤونك؟
لكنى ناضجة وأعمل وأعول نفسي فما حاجتي لرجل؟
ولو كنت محافظ هذه المدينة ؛ فأنت امرأة قليلة الحيلة لا تستطيعين أن تمشى وحدك ليلا إلا في حراسة أب أو أخ أو زوج .. بلغت الخامسة والثلاثون ولن أتفرج عليك و أنت تذبلين أمامي)
إن الأم التي تؤمن بأن الرجل هو الحامي، وعاشت طول عمرها على هذا الإيمان، هي نتاج لتراث ثقافي أبوي يرسخ في ذهن المرأة الضعف والقهر ويدفعها للتهميش، وهي أيضا في نظر الابنة تعيش على إيمان مغلوط، فالابنة عندما تنادى بحريتها، طالبة الحياة كما تريد، تكشف عن تجربتها التي منحتها اليقين بأن الرجل ليس الحامي بل المدمر لحياتها.
تنكشف لنا مع القراءة، ثلاث ثقوب أو ثلاث تدميرات لحقتها في سنى حياتها المختلفة :
(رأت يد العجوز وهى تعبث ثم قفزها من على ساقيه ونظرة أمها الحانقة وقد دفعتها أن تعود للجلوس مرة أخرى)
وفى مقطع أخر جاء الثقب الثاني:
(وعمتها تنزلها بيدها لتمسك بالدجاجة التي ألقاها ابنها عمدا فتجده في قاع المنور ينتظر انصراف أمه وينقض عليها ضما وتقبيلا وخفضا ورفعا لم تكن خلال عتمة هذه الثقوب قد تجاوزت التاسعة)
ثم الثقب الثالث:
(غرقت في النوم فلم تدر إلا بيد يخلع عنها ملابسها انتبهت فإذا هو عار تماما, ارتعش قلبها لا تعرف أين سحب الدم من جسدها؟ قفزتها خطوة من السرير إلى باب الغرفة, عرقلها فوقعت ..التصق بها …ضعيفة فلم تقو على دفعه كان حريصا (…) لكنه أفرغ ما في نفسه و كانت هذه هي القاضية)
القصة مثقلة بكثير من الهموم فهي في الأساس تطرح قضية تحرير من ثقافة سلبية ومجتمع بطريركي، حيث تكون الفئات الضعيفة والمهمشة في منطقتين، منطقة القبول والطاعة، ومنطقة الرفض المحاصرة داخليا، وتظهر الحرية المنقوصة للمرأة من جانب أم لا تشغل نفسها بما تريد ابنتها بل ما تريد هي، فالأم الذى وقع عليها القهر سابقا استسلمت مع الزمن لثقافة القهر ثم إلى الاندماج فيها، بحيث تحولت هي أيضا إلى منتج لتلك الثقافة، تمارسها على الجيل الجديد وهى هنا أبنتها التي تعيش مقهورة من طفولتها، في حالة لا يمكنها فيها التحكم في اختياراتها فنقصت حريتها، وانزوت قدراتها الابتكارية والإبداعية، وتنتهى القصة بهذا المقطع:
( فهذا هو الرجل الذى يريدون أن احتمى بظله؛ العجوز والمراهق والناضج كلهم ذكور وكلهم هتكوا سترى ودنس براءاتي, في كل مرة انتهكت فيها لم أقل شيئا ..!! قفزت وعدت إلى مقعدي على ساقى العجوز ولم أقل شيئا، عندما صعدت من المنور شاحبة مكدودة مقطوع فستاني الأحمر لم أقل شيئا- انسحبت من بيت أختي بهدوء بعد فعلة زوجها ولم أقل شيئا؛ وسيظل فمي مغلقا للنهاية ولن أقول شيئا)
إنه الصمت المؤلم في لحظة الحداد على النفس، الذى تتكبده نساء كثيرات يتعرضن لهذا الانتهاك الجسدي، وفى ركن ما ينزوين وهن يرتدين السواد وقلوبهن تنزف، لكنه من ناحية أخرى يعبر عن قوة، فلا يمكننا أغفال عزة النفس والكبرياء، في لحظات السكوت الناتجة
عن العجز، فأي كلام هنا، هو شكوى من البطش والطغيان، تقدم للبطش والطغيان، فأي فائدة ستجنيها، وأي عدل ستناله، والمجتمع البطريكى حولها لا يرحم؟
3- عتبة خروج
------------
ملمح الأزمة الاجتماعية يتضح فيما نراه من تدهور القيم والقهر الغير إنساني، والكاتبة تترجم عوالم الشخصية الخاصة بوعي تام ولغة سهلة, واستطاعت رسم عوالم حقيقية، من خلال الدقة في اختيار الموضوع وتحويل الزمان والمكان إلى مشاهد درامية، رغم أنها لم تمنح المكان خصوصية حقيقية، وأصبح مكان الصراع الحقيقي هو الداخل النفسي.