في اذار عام 1963 غادر الحياة سلام عادل ، الرمز الشيوعي المعروف ، لكنه حضر بقوة الى نادي العلوية ببغداد الاسبوع الماضي من خلال فعالية كبيرة اقامتها اللجنة الثقافية في النادي .. وهذا الحضور ، تم من خلال توقيع كتاب ، المفكر اليساري د. عبد الحسين شعبان (سلام عادل – الدال والمدلول وما يمكث وما يزول ) .. جمهور كثيف ، ونقاشات ثرة ، سبقها د. عامر حسن فياض ، ود. جمال العتابي بقراءتين مختلفتين للكتاب ، اوضحا فيهما رأيهما في الجهد التوثيقي القيم للكتاب ، وذكاء الكاتب في وضع اليد على ما كان خافيا في مسيرة المناضل الشيوعي ، ودوره في توثيق أواصر الحزب في احلك مراحله ..
من خلال اطلاعي المسبق ، على برنامج الفعالية ، المتضمن تقديم مبتسر وقراءات سريعة للكتاب ، ثم البدء بتوقيع الكتاب من قبل المؤلف ، غير ان الامر خرج عن البرنامج ، حين اصر الحضور على ان يتحدث المؤلف عن الكتاب وظروف تأليفه ، ومعرفته بسلام عادل الانسان ، والسياسي ، فكان لا بد ان يستجيب د. شعبان ، فأنثال صوته المعروف بعذوبته ، وحلاوة إلقائه ، وتفرده بالهدوء المشبع بالإقناع والمدعم بالشواهد ، موضحا ، بأنه حين تصدى للكتابة عن سلام عادل ، عدة مرات ، وفي مناسبات كثيرة ، ثم توج بإنجاز كتابه الجديد ، انما جاء وفق اعتبارات شخصية وعائلية، إلى جانب علاقات شيوعية وسياسية ، فكلانا ينتمي إلى النجف المدينة المعطاء والمركز الحضاري الثقافي المفتوح للعلم والأدب والفقه والدين والسياسة والتنوّع العرقي واللغوي على الرغم من طابعها العروبي وحفاظها على لغتها العربية السليمة ، مؤكدا انه لا يمكن الكتابة عن سلام عادل دون الكتابة عن جزء مهم وحيوي من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بل وتاريخ العراق المعاصر وحين نتحدث عن تاريخ الدولة العراقية الحديثة، فلا بدّ أن نتناول تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية ولن نمرّ عليها إلّا بالخط العريض وليس مروراً عابراً.
وبجدلية رائعة ، ولغة مفعمة بالصدقية ، ساح بنا شعبان في ذاكرة ، عجيبة ، متقدة بالذكريات ، وسعة افق بتداعيات الماضي المفضي الى حاضرنا ، الى فضاء من المعلومات ، كانت الى وقت قريب ضبابية في وجداننا ، لكنه صححها بالوثيقة والرواية المدعمة بالتواريخ ، واسماء الشخصيات ، فكان حديثه ، اضافة جديدة الى تاريخ سلام عادل ، والى السفر النضالي للحزب الشيوعي العراقي . وبشهادة منصفة ، اقول ان د. شعبان قدم لنا في حديثه وفي صفحات كتابه الجديد صورة عن سلام عادل مختلفة عن المعهود … صورة تقرن الظروف بالفكر السياسي للذات النضالية والارتقاء بها إلى مصاف البناء الحزبي المنظور والمؤثر بالأشياء ، حتى بدت الحياة عنده غير الحياة في الواقع ، وأن العمل الحزبي تحول الى سلوك يومي عاكسا لإدراكات الذات الجمعية للوطن .. قد يبدو الامر ، وكأنه صورة بسيطة لمناضل كبير مثل سلام عادل ، ولكن أدواتها وسيرورتها التعبيرية نفذت خارج المكان الذي تؤشر عليه رمزية النضال ، فاستطاع بفعله النضالي اليومي ان يمتد إلى اوسع مدى ، وكأنه اراد ان يصوغ جزءا من التاريخ العام للوطن ، وغدا كل فعل نضالي في مكان معين ، هو نضال يشمل الجميع ، ومؤثر في الجميع ..
ومعروف ان د. شعبان ، دائما يؤكد في كتاباته ان المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو وقفة جدّية للمراجعة الجريئة بخصوص مسيرة اليسار النضالية ودور بعض شخصياته البارزة بما فيها الشيوعية ، بكل ما لها وهو كثير وكبير جداً، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، وذلك بعيداً عن التقديس والتمجيد، لاسيّما حين يكون الهدف هو البحث عن الحقيقة ومعالجة ما يستلزم إزاءها. ولأن الكثير من المياه جرت تحت الجسور، وإن اللحظة التاريخية لا يمكن استعادتها، لكنه يمكن قراءتها حتى وإن كانت الزوايا مختلفة، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة تأملية ونقد ذاتي ورؤية جديدة، خصوصاً بوجود حقائق ومعطيات جديدة.
وفي ضوء ذلك فإن الكتابة عن سلام عادل ليست سهلة، ولاسيما حين يختلط العام بالخاص والوطني بالسياسي والحزبي بالمبدئي، وأن قصة استشهاده وحدها والبطولة التي أبداها في مواجهة جلّاديه حسبما اعترفوا بذلك تكفي لأن تجعل منه رمزاً كبيراً على مختلف المستويات، سواء في شجاعته وكبريائه أو دفاعه عن المثل والقيم التي آمن بها لدرجة أنه دفع حياته في سبيلها ، وقد رحل وهو لا يزال في أوج طاقته وحيويته وإبداعه حيث لم يتجاوز الأربعين سنة ، إلا ببضعة أشهر.