لا يهمنا إن كان فيروس كورونا انثى او ذكر، او فيروس حيواني المصدر، او بيولوجي من صنع الانسان، فهو اليوم اللاعب الأوحد الذي يتحرك بحرية في العالم بغض النظر عن الجنسية والدين والطائفة والقومية والقبيلة، حيث يتنقل بحرية بين القارات دون عائق مسترشدا بقانون النظام الحر (دعه يمر دعه يعمل)، منتهكا كل سيادات الدول التي ازعجونا بها ليل نهار بمنطق الصواريخ والقنابل النووية والطائرات المسيرة ،والتباهي بالمليارات المكدسة في خزائن الدول والشركات ، رغم ان هذا الكائن لا يمكن رؤيته بالعين المجردة ،ولا بالمجهر الضوئي، لكنه اثار رعب الدول وارغمهم ليعلنوا الحداد الصحي في كل القارات ،ويرفعوا له الرايات البيض خوفا من بطشه واساليبه المستجدة الخبيثة ،فاصدروا قوانين ( خليك بالبيت ) ، ورفعوا حالة الإنذار الى اعلى مستوى، وجعل سكان المعمورة هائمون وحائرون وخائفون في مدن مهجورة، كأنهم ينتظرون فزع الموت واقتراب عزائيل .
هذا الكائن الصغير، شغل الدول والناس بجبروته، فلا تصده البارجات الحربية، والصواريخ المشفرة، والطائرات المحملة بأنواع قنابل الموت والدمار، فهو اليوم المعلم الأول صاحب الحكمة البليغة، والرئيس الأوحد الذي يحكم العالم، ويسن القوانين، ويغلق الشركات والبنوك، ويعلق حركة الطائرات والموانئ، ويتلاعب بأسعار النفط والذهب والدولار. فالكل سواسية امام قوانيه بين من يملك المال والجاه، ومن لا يملك الا قوت يومه، او يموت على قارعة الطريق جوعا، فلا نسمع اليوم لجعجعة الرؤساء ووزراء السلاح والمال، كأنهم ملح ذاب في ازقة وبحار العالم.
اين اختفت الدول الكبرى التي كانت تتباهى ليل نهار بعظمتها واسلحتها وقوتها وتمدنها امام هذا الكائن الصغير الذي لا نعرف أصله وفصله، اين أمريكا العظمى التي يبحث مواطنيها اليوم عن ورق التواليت، ومستشفى يؤمن حياتهم، بينما وفرت لهم اكداسا من الأسلحة الفتاكة بتريليونات الدولارات، واساطيل حربية تجوب الأجواء والبحار، وأنظمة دفاعية جبارة.
أين اوربا بدولها وثرواتها واسطاليها عندما استفاقت من صحوتها على نقص فادح في معداتها الطبية لمواجهة الوباء، فلا تستطيع بعض هذه الدول توفير جهاز تنفس اصطناعي بسعر لا يتجاوز 30 ألف دولار لإنقاذ مواطنيها ،مثلما لا يجد هذا الاوربي سريرا طبيا ينام عليه، ولا ممرضة ترعاه ،ولا جهاز اصطناعي ينقذه من الموت ،مما اضطرت دول لرفع أجهزة التنفس عن شيوخها الذين اسسوا لهم دولهم ومصانعهم وجامعاتهم ، لتعيد لنا بلا خجل نظريات الماضي لمالثوس ودارون (البقاء للأصلح ) من اجل الخلاص لمن تعتبرهم فائضا اقتصاديا واستثماريا ،كأنها تريد ان تثبت بالدليل القاطع قبح الرأسمالية وتوحشها .
كورونا وما إدراك ما كورونا، هذا الذي خرج من خلايا خفافيش الليل متسللا ليؤدب الجميع دولا وشعوبا، بما فعلناه للحياة والطبيعة من هدم وخراب وموت، كأننا صنعنا موتنا اجبارا، ورسمنا ظلمة حياتنا بقوانين الغابة والتوحش، لتختفي انسانية الانسان في عالم العسكرة والمادة والعبودية، فما عادت تلك الدول العظمى تتبجح بمصانع الصواريخ النووية، والمعامل الجرثومية، ولا بمراكز المال والعسكر والطب والعلوم ،لأن الفيروس فضح انانيتهم وفوقيتهم وعنصريتهم ،لتؤكد لنا ان بيوتهم أوهن من بيت العنكبوت في مواجهة الفيروس ،ما لم يكن في الواقع والاحلام ،وما تخفيه الاقدار والازمان .
الرئيس الجديد كورونا اعطى الدول والشعوب دروسا كثيرة وبليغة ، فقد علم الدول الدرس الاول والابلغ، ان العلم لا يبنى في مصانع اسلحة الدمار، وانما يبنى في المستشفيات والجامعات وبيوت الفقراء ، وان العلم لانهاية له، فهو اخلاق وعدالة قبل ان يكون علما للقمع والاستغلال والبطش (وما اتيتم من العلم الا قليلا)، مثلما علمهم ان الدول سواسية في الحياة والأزمات، لا فرق بين عربي واوربي الا بالتقوى والعدل، الكل في مركب واحد ومصير مشترك، فما عاد العالم الأول اسطورة في أحلام البشر،وماعادت اكذوبة التحضر تختصر في حقوق الانسان وصناديق الاقتراع ، وانما في إعمار الكون بالأخلاق ومبادئ المحبة والرحمة والقيم السامية والايمان.
مثلما فضح هذا الفيروس الصغير رؤسائنا وقبائلنا وطوائفنا بسقوطهم السياسي والاجتماعي والأخلاقي عندما حولوا بلداننا الى بؤر للفقر والقمع والجهل ،وأماكن لعمالة الأجنبي ،فقزموا الأوطان بالفساد والكذب والنفاق ،وحولوا الشعوب الى قطيع ملغوم بالغيبيات والطقوس والاحزان والعبودية ، فنشروا الفساد في ارضنا ،وجعلوا هز البطون اعلى قيمة من عقل الباحث العلمي ،ونصبوا السارق قائدا سياسيا ،والجاهل رئيسا للوزراء ،ومنحوا الاميين وأصحاب الشهادات المزورة النياشين والانواط والرتب العسكرية العليا .وحولوا التعليم الى جهالة لتلقين الغباء، وغلق منافذ الابتكار ، حتى جاءنا العزيز كورونا ليؤدبهم ويخرجهم من خرائط الدنيا ،فلاتسمع لهم كلمة رنانة ،ولا ترى صورهم المغرورة ، كأنهم في حجورهم اموات .لذلك من حقنا بعد كل هذه المصائب والمآسي ان نحيل النظام العالمي المتهرئ الذي تأسس على أشلاء البشر بفعل قنبلتا هيروشيما وناكازاكي على التقاعد لخلاص البشرية من فيروسهم الخطير.
وانت أيها الانسان، لقد طغيت وتكبرت وظلمت وبغيت وتجبرت، ونسيت الله في حكمه وعدالته ورحمته، فما عاد الا المال يستهويك، فظلمت اخيك جوعا وعدلا، وحولت المساجد الى طقوس نفاق ومباهاة، وليس طلبا للرحمة والمغرفة، وجعلت دنياك فوضى للظفر بمتعة زائلة، ولهاثا يوميا تفقد فيها متعة حياتك الحقيقية، وحولت حياتك الى جحيم من الاستهلاك، فقد صار يومنا عربة للتسوق نملأها بالمنتجات غير الصحية، وتنتهي في سلة المهملات لأنها زيادة في حاجتنا، وعربة لتكديس الملابس لنثير اعجاب الاخرين ،وصارت المطاعم والمقاهي والبارات بيوتنا المفضلة ، بل وصل حالنا ان نقذف بالأطنان رزقنا من طعام الاعراس والاموات في المزابل ،وهناك من يبحث عن قطعة رغيف ليقاوم الموت .
ايها الانسان ما اضعفك في المرض والأزمات، فلا تغتر بالمال والجاه والسلطة فقد (خلق الانسان ضعيفا)، فأين قارون وفرعون وشارون وهامان وعاد وثمود؟
أيها الرئيس الاوحد (كورونا)، شكرا لوجودك المؤقت معنا، ودروسك البليغة للدول والشعوب، وحان اليوم ان تستقيل من منصبك كرئيس للعالم، وتفتح أبواب الامل للبشر في حياة جديدة بلا أسلحة دمار وموت وتهجير وفقر وظلم. فأغفر أيها الرئيس للعالم الذي طغى، لأن الله غفور رحيم.