سألني صديق عزيز : كيف حالك في أيام الحظر , هل تشعر بالضجر والملل ، وماذا تعمل في هذه الأيام ، وأنت محاصر بين جدران البيت ؟ . والحق يقال أن تجربة بمثل هذا الحظر القاسي الذي عطَّل الحياة ، وغيَّر عاداتها ، وكسر روتينها اليومي المعتاد ، ليست تجربة سهلة لمن إعتاد الدوام الرسمي ، أو اعتاد الخروج من البيت ، سعياً وراء رزقه اليومي ، أو طلباً للترويح عن نفسه ، أو التفنن بقتل الوقت بما ينفع ، أو لا ينفع !
لذلك فإن الجواب ، لابد أن يكون مختلفاً ، وأحياناً متناقضاً تماماً ، بين إنسان وآخر ، كلٌ بحسب ظرفه وعمله ، وكلٌ بحسب صلابته النفسية ، أو فلسفته ، أو مزاجه ، وأحياناً كلٌ بحسب عُدَّتهُ من الهوايات والعادات والانشغالات التي قد تجعل من أيام الحظر أيام ممتعة ، ومفيدة ، ومنتجة ، لا يتسلل إليها الضجر ، ولا الملل ، ولا ينغصها شيء ، باستثناء الحنين للقاء الأحبة والأصدقاء ، بعد أن حلَّ مفهوم التباعد الاجتماعي ، بدلاً من اللقاء والتواصل والتواعد ، وأصبح عالم الكورونا مختلفاً عما سبقه ، بل أن هناك من الباحثين والمفكرين المرموقين من بَشَّرنا بأن عالم ما بعد الكورونا سيكون أقل انفتاحاً ، أقل حرية ، أكثر فقراً !
تجربتي الشخصية تحت الحظر ، قد لا تكون مثالية ، ولا مُلهِمة ، وهي ليست إنموذجاً يُحتذى ، إنما هي مجرد تجربة شخصية جداً ، ولا تعني أحداً غيري ، لولا الطلب المُلح من الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد رئيس تحرير جريدة الزمان لتدوينها ، ذلك أني أعتدتُ فرض الحظر على نفسي ، ولا أقول العزلة ، منذ أن أخترتُ التقاعد الوظيفي قبل بلوغ السن القانونية بأربع سنوات
د. طه جزاع
وتفرغتُ للسفر والتأمل والقراءة والكتابة ، ولما لم يَعُد السفر ممكناً في العصر الأقل حرية ، والأقل انفتاحاً ، والأكثر فقراً ، فقد كان الحظر فرصة ممتازة لأعيد ترتيب الكتب المُبعثرة ، أو المُرتَّبة بلا ترتيب ، محاولاً أن أضع بين يديَّ ما أشتهي قراءته من كتب أو روايات مكدسة تنتظر دورها في القراءة ، وأخرى قرأتها منذ سنوات ، فوددتُ اعادة قراءتها من جديد ، برؤية جديدة ، ووعي جديد ، ومتعة جديدة ، هذا فضلاً عن محاولة بث الروح بمشاريع كتابية كنتُ قد خزنتها في الحاسبة الشخصية كوديعة إلى أن يحين وقت بعثها ، أو دفنها إلى الأبد !
غير أن الأمر لم يمضِ بمثل هذه السهولة ، فبعد يومين من الحظر وصلني عبر التراسل الإلكتروني طلب من صديق مِعماري بارز في العِمارة البغدادية ، لأكتب له مقدمةً لكتاب مذكراته الذي يحكي يومياته ، منذ أن كان طالباً في انكلترا ، وعنصراً بارزاً في قيادة الحركة الطلابية اليسارية ، حتى عودته إلى بغداد ، ثم تكليفه بمشروع القرى النموذجية في مناطق الأهوار ، وعدد من المشاريع الأخرى ، وبالطبع لم أجد نفسي إلا مستجيباً لرغبة هذا الصديق العزيز بشرط أن أطلع على الكتاب كاملاً من أجل مراجعته أولاً ، ولكي أتمكن من كتابة مقدمة تستوعب أحداثه الكثيرة التي تتضمن أموراً مهمة ومثيرة ، وتصحح معلومات تاريخية حول بعض شخصيات اليسار العراقي ، ودورها فيما سمي بثورة الأهوار منتصف الستينيات من القرن الماضي - وهي الثورة التي أخذت صفحات طويلة من رواية أثارت ضجة في وقتها للأديب السوري حيدر حيدر ، ظهرت بداية الثمانينيات تحت عنوان " وليمة لأعشاب البحر .. نشيد الموت " - وكانت المذكرات مثلما توقعتها ممتعة بأحداثها ومفارقاتها ، وغنية بالمعلومات عن الأهوار ، ورجال الأهوار ، وعادات أهلها الاجتماعية ، ومضايفها ، وطبيعتها ، وأغانيها ، وأسماكها ، وطيورها ، وغير ذلك من أمور تفصيلية كتبها الصديق المِعماري بلغته المبسطة ، بهدف أن يكون الكتاب تتويجاً لمسيرته الطويلة في الهندسة المعمارية ، والعمل الطلابي والمهني والسياسي . غير أن التفرغ لكتاب صديقي المِعماري ، تطلب مني أن أنقطع عن مواصلة قراءة رواية تاريخية عن " الحروب الصليبية كما رآها العرب " للكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف الذي كرمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوسام الاستحقاق الوطني نهاية شباط الماضي ، تقديراً لإنجازاته الأدبية ، وكنتُ قد أنهيت قراءة القسم الأول من هذه الرواية – التاريخية الزاخرة بالحوادث المأساوية التي شهدتها تلك الحروب في أوج اشتدادها على بلاد الشام ، وأجَّلت مواصلة قراءة بقية الأقسام إلى ما بعد الانتهاء من عملي في كتاب صديقي ، ومن حسن الحظ أنني ، وقبل هذا العمل ، كنتُ قد أنهيت تواً اعادة قراءة رواية معلوف الشهيرة " ليون الأفريقي " بكتبها الأربعة ، كتاب غرناطة ، وكتاب فاس ، وكتاب القاهرة ، وكتاب رومة ، وبُهرتُ مجدداً - بعد سنين طوال من قراءتي الأولى لها - بأحداثها الغريبة التي تلت سقوط غرناطة ، وهجرة أهلها إلى المغرب هرباً من قسوة القشتاليين الإسبان ، وما شاهده وعاشه الغرناطي حسن بن محمد الوزّان " ليون الأفريقي " من حوادث وأهوال ومصادفات شخصية وعامة ، في غرناطة وفاس والقاهرة ورومة ، لتكون هذه الرواية واحدة من أروع روايات أدب الرِحلات ، فضلاً عن كونها رواية تاريخية في غاية الأهمية والإثارة .
فاتني أن أذكر ، بأن طَلَب صديقي المِعماري لمراجعة كتابه ، وكتابة مقدمة للكتاب ، قد حفز شهية عدد من الأصدقاء لإنجاز مشاريعهم المؤجلة ! فقد وصلني من صديق مقيم خارج العراق رجاءٌ آخر لكتابة ومراجعة أوراق من دفتر مذكراته ينوي طبعها في كتاب تحت عنوان " حبرٌ لمْ يَجِفَّ بعدْ " ، ومن بغداد أرسل لي صديق اكاديمي هو الآخر بحثاً في نظرية السياحة ، يَعُدَّهُ للترقية العلمية ، ويطلب مني مراجعة الجوانب النظرية والفلسفية في بحثه
أما ذلك الصديق صاحب القلم الجميل ، بلغته الغنية ، واسلوبه المتين ، ومفرداته البليغة ، فبين يديه كتاب جاهز منذ سنوات ، يتضمن انطباعاته عن شخصيات عراقية وعربية مهمة في الأدب والصحافة والفلسفة والفقه والفكر الإسلامي ، لكنه يتكاسل عن جمع مقالاته - التي نشر أغلبها في الصحف منذ سنين – وعن اعدادها وتوضيبها وتنسيقها لكي تنشر في كتاب ، وكلما حثثته على انجازه واصداره ، فإنه يتراجع في اللحظات الأخيرة ، غير أنه أعلمني قبل أيام ، أن الحظر سيضطره للتفرغ من أجل انجاز كتابه الموعود ، راجياً مني مراجعة تلك المقالات قبل صدور الكتاب ، وبالتأكيد سررتُ بذلك ، وأبديتُ استعدادي الكامل لهذا العمل ، ومضت على ذلك أيام ، ولم يصلني منه شيء ، ولم أستغرب ذلك ، فقد عملها سابقاً مرات كثيرة ، وسيمضي عصر الكورونا ، ولن يصلني منه شيء ، ليبقى كتابه حبيس حاسبته الشخصية وأوراقه المبعثرة ، بانتظار عصر ما بعد الكورونا !
أحياناً ، وأنت منهمكٌ في قراءة كتاب أو رواية ، يحدث ما يجعلك تركن القراءة جانباً ، لتواكب حدثاً طارئاً ، هذا الأمر كان عاملاً مضافاً لطلبات الأصدقاء الذين تفتقت قرائحهم في مدة الحظر ، ليجعلني أقطع قراءة الحروب الصليبية وأركنها جانباً ، ذلك هو وفاة المِعماري البغدادي رفعة الجادرجي ، فقد حدث أن نشر أحد الأصدقاء منشوراً في الفيسبوك عن الراحل ، تضمن معلومة غير دقيقة حول دخوله السجن ، ولما كنتُ أنا وهذا الصديق نتحدث يومياً عبر الواتساب ضمن مجموعة محددة من الاصدقاء " كروب " ، فقد طلبت منه تصحيح المعلومة ، - فليس من طباعي أن أصحح منشوراً على العام – وتدخل أعضاء الكروب في النقاش وتقديم المعلومات ، وهذا ما ذكرني بكتاب كنتُ قد قرأته منذ سنتين ، فعدتُ لأبحث عنه في مكتبتي ، ووجدتُ نفسي بعد ساعة منكباً على قراءة كتاب بلقيس شرارة ، عقيلة المعماري الراحل " هكذا مرت الأيام " الصادر سنة 2015 وكانت حين انتهت من كتابة مذكراتها هذه في الثمانين من عمرها ، تقول بلقيس بنبرة حزينة " مرت السنون بعجلتها التي سحقت بدورانها طفولتي وشبابي ، ولم يبق أمامي إلا الشيخوخة . فقد انقضت ثمانية عقود من حياتي ، رافقتُ رفعة ستة منها . إنها رفقة طويلة ، غنية بالفكر والعاطفة والانتاج ، رفقة مليئة بحب الحياة ، التي عصرنا رحيقها سوية " .
لا أريد أن أكون مبالغاً لأخبركم بكتب وروايات أخرى قرضتها على عجالة أيام الحظر ، وأخرى لازالت على الطريق تنتظر ، فلكي أكون طبيعياً مثل بقية البشر تحت الحظر ، لابد من القول أنني متواصل يومياً مع عدد كبير من الأصدقاء داخل العراق وخارجه ، يكسرون عزلتي ، واكسر عزلتهم ، بفضل عطايا التكنولوجيا وهباتها الكثيرة ، واقلب صفحات الفيسبوك ، وأتابع أخبار الفضائيات التي لا تسر صديقاً ولا عدواً ، واشاهد بعض الافلام الوثائقية ، واللقاءات التلفزيونية في عدد من القنوات الفضائية العربية والأجنبية الناطقة بالعربية ، وتفرغت ليلة كاملة لمشاهدة مسلسل من انتاج شركة " نتفليكس " عملاق الانتاج التليفزيوني الأمريكي ، وهو مسلسل حديث من ست حلقات فقط تجمع بين الدراما والوثائقيات عن فتح القسطنطينية ، وعن حياة وشخصية السلطان العثماني محمد الفاتح ، يحمل عنوان النهضة العثمانية " Ottoman Rising " . ليس هذا فحسب ، إنما أطالع الصحف العراقية التي تصدر بطبعات إلكترونية ، إذ تصلني روابطها يومياً من أصدقاء أعزاء ، كما أتابع تقرير الموقف الوبائي اليومي للإصابات المسجلة لفايروس كورونا المستجد في العراق الذي تصدره وزارة الصحة والبيئة .
وبعد ... هناك أشياء كثيرة يمكن عملها تحت الحظر ، ليس من بينها إطالة اللحى ، وتفليس الباقلاء ، وتقريم رؤوس الباميا ، وكثيراً ما أقول : إن الذي منحه الله متعة القراءة والشغف بها ، لا يمكن أن يعاني من الضجر والملل والكآبة ، ففي كل رواية جديدة ، حياة جديدة ، وفي كل كتاب جديد ، فتح جديد ! .
يتوهم من يظن أن الحكومات وسلطاتها التنفيذية ، هي التي تفرض الحظر على البشر ، العكس هو الصحيح ، البشر القابعون في بيوتهم ، هم الذين يفرضون الحظر الشامل على الحياة ! .
تُرى هل يسمح لي الوقت تحت الحظر ، لاستكمال قراءة رواية " الحروب الصليبية " ؟!